توفيق الحكيم
مخلوقات صغيرة تحبونها كلكم وهي أمامكم في كل لحظة طول النهار: أنها العصافير
هذه العصافير الموجودة في كل مكان في الدنيا
وكلها
تزقزق في وقت واحد إذا طلع الصبح
وتخرج من أعشاشها في لحظة واحدة كأنها
سمعت كلها جرسا خفيا من داخل نفسها يوقظها من النوم فتنهض نشيطة لتعمل وتكد
وتجتهد, وهي تغني بزقزقتها اللطيفة.
فلا يوجد بينها كسلان أو متخلف في عشه, فهي لا تعرف الكسل ولكنها تحب العمل وتحب النشاط مع الزقزقة والغناء.
ولذلك قال عصفور صغير لأبيه ذات يوم:
ـ قل لي يا أبت من خير المخلوقات في الدنيا؟.. ألسنا نحن العصافير؟.
هز العصفور الكبير رأسه وقال لابنه العصفور الصغير: ليس من حقنا أن نقول إننا نحن العصافير أحسن المخلوقات.
قال العصفور الصغير: ولماذا ليس من حقنا أن نقول ذلك؟
قال العصفور الكبير: لأنه يوجد غيرنا من يقول إنه أحسن المخلوقات
سأل العصفور الصغير: من هو يا أبي الذي يقول عن نفسه أنه أحسن المخلوقات؟
قال العصفور الكبير: إنه الإنسان
قال العصفور الصغير:
ـ ومن هو الإنسان؟..
أجاب الأب:
ـ ألا تعرف الإنسان يا ولدي
انه ذلك الذي يرمي عشنا بالحجارة
قال الابن:
ـ نعم.. نعم عرفته, وشاهدته وهو يرمي عشنا بالحجارة, أهو أحسن منا؟
أهو أسعد منا؟
قال الأب:
ـ ربما كان أحسن منا, ولكنه ليس أسعد منا..
سأل الابن:
ـ لماذا ليس أسعد منا؟..
أجاب الأب:
ـ لأن في جوفه شوكة تشكه وتعذبه
قال الصغير:
ـ شوكة في جوفه.. مسكين..
ومن الذي وضع في جوفه هذه الشوكة؟..
قال العصفور الأب: هو نفسه الذي وضعها.. وضعها بيده وصارت تشكه دائما وتعذبه.. أتعرف يا بني هذه الشوكة؟
قال العصفور الصغير: لا.. لا أعرف
قال الأب:
ـ إن هذه الشوكة اسمها الطمع
سأل العصفور الصغير:
ـ الطمع..
وماهو الطمع؟
قال العصفور الكبير:
ـ هذا شئ لا تعرفه أنت أيها الصغير
قال الصغير:
ـ وهل تعرفه أنت يا أبي؟
قال العصفور الكبير:
ـ نعم, لأني عرفت الإنسان ورأيت شوكة الطمع فيه.
سكت العصفور الكبير المجرب لحظة ونظر إلي ابنه الصغير فوجده يسمع كلامه ولا يفهمه, لأنه لم ير بعينيه ما يقوله أبوه..
قال الأب:
ـ نعم.. لابد أن تشاهد بعينيك..
ألا تريد أن تري بعينيك؟
قال الابن: نعم يا أبي
أريد أن أري بعيني
قال الأب: ستري.. إذا رأيت إنسانا يقترب فاخبرني وأنا أُريك فيه شوكة الطمع.
لم يمض وقت قليل حتى ظهر رجل.
قال العصفور الأب لابنه:
ـ اسمع يا بني سأوقع نفسي في يده وعليك أن تراقب ما يحدث.
خشي العصفور الصغير أن يحدث لوالده مكروه أو ضرر, ولكن الأب طمأنه وقال له:
ـ إني اعرف طبع الإنسان واعرف كيف أفلت من يده.
وترك العصفور الكبير ابنه الصغير فوق الشجرة ونزل هو حتى وقع علي الأرض قرب الرجل, فصاده الرجل وفرح به.
سأله العصفور وهو في يده:
ـ ماذا تريد أن تصنع بي؟
قال الرجل:
ـ أذبحك وأكل لحمك.
قال العصفور:
ـ وهل لحمي يشبعك..
إن لحمي قليل..
قال الرجل:
ـ قليل ولكنه لذيذ
قال له العصفور بمكر:
ـ استطيع أن أعطيك ما هو انفع لك من لحمي وأكلي
قال الرجل:
ـ ماذا تعطيني؟
قال العصفور:
- أعطيك ثلاث حكم إذا تعلمتها نلت بها خيرا كثيرا
قال الرجل:
ـ اذكرها لي هذه الحكم الثلاث.
قال العصفور بغاية المكر:
ـ لي شروط
قال الرجل:
ـ ماهي شروطك؟
قال العصفور:
- الحكمة الأولي أعلمك إياها وأنا في يدك
قال الرجل:
- شرط بسيط,
والحكمة الثانية؟
قال العصفور:
الحكمة الثانية أعلمك إياها إذا أطلقتني
تساءل الرجل عن الحكمة الثالثة.
فقال العصفور:
-الحكمة الثالثة أعلمك إياها عندما أطير وأصير فوق الشجرة.
طمع الرجل في الخير الكثير الذي سيناله إذا عرف الحكم الثلاث ،فأسرع يقول للعصفور:
- قبلت الشروط,
هات الحكمة الأولي
قال العصفور:الحكمة الأولي هي لا تتحسر علي ما فاتك!
فقال الرجل:
- والثانية؟
قال العصفور:
- أطلقني أولا .. حسب الشروط
فأطلق الرجل من يده العصفور.. ووقف العصفور على الأرض بقربه قائلا:
- الحكمة الثانية لا تصدق ما لا يمكن أن يكون..
ثم طار العصفور إلى أعلى الشجرة وهو يصيح:
- أيها الإنسان المغفل .. لو كنت ذبحتني لأخرجت من بطني جوهرة كبيرة غالية وزنها ثلاثون مثقالا.
فعض الرجل على شفتيه من الندم عضة أسالت الدم، وتحسر حسرة شديدة.. ونظر إلى العصفور المطل عليه من فوق الشجرة وتذكر شروطه وقال له:
- هات الحكمة الثالثة!
فقال العصفور الماكر وهو باسم ساخر:
-
أيها الإنسان الطماع.. إن طمعك أعماك.. فنسيت الحكمتين الأولى والثانية
بالثالثة؟ّّ!.. ألم أقل لك "لا تتحسر علي ما فات" و " لا تصدق ما لا يمكن
أن يكون " .. لقد صدقت إن في بطني جوهرة وزنها ثلاثون مثقالا بينما وزني
كله لا يصل إلي عشرين مثقالا.
وكان منظر الرجل مضحكا.. فقد استطاع عصفور أن يلعب بانسان.
والتفت العصفور الكبير إلى ابنه العصفور الصغير قائلا:
- والآن يا بني.. رأيت بعينيك؟!
فقال الصغير:
- نعم.
رأيت.. صحيح.. كيف صدق هذا الإنسان ما لا يمكن أن يكون: وهو أن في بطنك جوهرة وزنها أكبر من وزنك!..
فقال العصفور الكبير:
- الطمع يابني..
طمع الإنسان!.