الغراب والثعبان

( الغراب والثعبان )


زعموا أن غرابا كان له وكر في شجرة على جبل , وكان قريبا منه جحر ثعبان أسود , فكان الغراب إذا فرّخ عمد الثّعبان إلى الفراخ فأكلها , فبلغ ذلك من الغراب وأحزنه , فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى . وقال له : أريد مشاورتك في أمر قد عزمت عليه.


قال له : وما هو؟ قال الغراب : قد عزمت أن أذهب إلى الثّعبان إذا نام فأنقر عينيه فأفقأهما لعلّي أستريح منه . قال ابن آوى : بئس الحيلة التي احتلت , فالتمس أمرا تصيب به بغيتك من الثّعبان من غير أن تغرّر بنفسك وتخاطر بها , وإيّاك أن يكون مثلك مثل العلجوم ( وهو طائر ) الذي أراد قتل السّرطانة فقتل نفسه .


قال الغراب : وكيف كان ذلك؟ قال ابن آوى : زعموا أن علجوما عشش في بحيرة كثيرة السّمك , فعاش بها ما عاش , ثمّ كبر في السّن فلم يستطع صيدا , فأصابه جوع وجهد شديد , فجلس حزينا يلتمس الحيلة في أمره , فمرّبه سرطان فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن فدنا منه وقال : مالي أراك أيّها الطّائر هكذا حزينا كئيبا ؟


قال العلجوم : وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ههنا من السّمك , وإنّي قد رأيت اليوم صيّادين قد مرّا بهذا المكان , فقال أحدهما لصاحبه : إن ههنا سمكا كثيرا أفلا نصيده أوّلا أوّلا ؟ , فقال الآخر : إنّي قد رأيت في مكان كذا سمكا أكثر من هذا فلنبدأ بذلك فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه . فانطلق السّرطان من ساعته إلى جماعة السّمك فأخبرهنّ بذلك , فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه وقلن له : إنّا أتيناك لتشير علينا فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوّه . قال العلجوم : أمّا مكابرة الصّيّادين فلا طاقة لي بها , ولا أعلم حيلة إلاّ المصير إلى غدير قريب من ههنا فيه سمك ومياه عظيمة وقصب , فإن استطعتن الإنتقال إليه كان فيه صلاحكن وخصبكن .


فقلن له : ما يمن علينا بذلك غيرك .

فجعل العلجوم يحمل في كلّ يوم سمكتين حتّى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما حتّى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السّمكتين فجاء السّرطان فقال له : إنّي أيضا قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي غلى ذلك الغدير .


فاحتمله وطار به حتّى إذا دنا من التّلّ الذي كان يأكل السّمك فيه نظر السّرطان فرأى عظام السّمك مجموعة هناك , فعلم أن العلجوم هو صاحبها وأنه يريد به مثل ذلك , فقال في نفسه : إذا لقي الرّجل عدوّه في المواطن التي يعلم فيها أنّه هالك سواء قاتل أم لم يقاتل كان حقيقا أن يقاتل عن نفسه كرما وحفاظا . ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم حتّى مات , وتخلّص السّرطان إلى جماعة السّمك وأخبرهن بذلك .


وإنّما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنّ بعض الحيلة مهلكة للمحتال , ولكنّي أدلّك على أمر إن أنت قدرت عليه كان فيه هلاك الثّعبان من غير أن تهلك به نفسك وتكون فيه سلامتك .

قال الغراب : وما ذاك؟

قال ابن آوى : تنطلق فتبصر في طيرانك لعلّك أن تظفر بشيء من حلىّ النّساء , فتخطفه , فلا تزال طائرا بحيث تراك العيون , حتى تأتي جحر الثّعبان فترمي بالحلىّ عنده , فإذا رأى النّاس ذلك أخذوا حليّهم وأراحوك من الثّعبان .


فانطلق الغراب محلّقا في السّماء فوجد امرأة من بنات العظماء فوق سطح تغتسل وقد وضعث ثيابها وحليّها جانبا , فانقض واختطف من حليّها عقدا وطار به. فتبعه النّاس ولم يزل طائرا واقعا بحيث يراه كلّ أحد حتّى انتهى إلى جحر الثّعبان فألقى العقد عليه والنّاس ينظرون إليه , فلمّا أتوه أخذوا العقد وقتلوا الثّعبان


وفي الأخير كلّ مايمكنني قوله لكم هو إعمال الفكر مليّا في هذا المثل فإنّك ولا شكّ ستبصر معاني هذا المثل فضلا عن كونك قد ضحكت أو عجبت منه .


===========من كتاب كليلة و دمنة لعبد الله بن المقفع ==========