قصة سدّ سـبأ ( سدّ مأرب )
كان في قديم الزّمان، في بلاد اليَمن، ملك عظيم اسمه “يعرب بن قحطان”. وقد استطاع هذا الملك، وبقيادته الحكيمة، أن يتغلّب على أعدائه جميعهم ويحكم مدّةً طويلةً من الزمن. وكان له عدد كبير من الإخوة والأبناء اعتمد عليهم في تسيير أمور البلاد الواسعة التي حكمها.
خلف “يعرب” في الملك ابنه “يشجب”. وكان ملكًا عادلاً يملك قصرًا جميلاً بُنِيَ فوق ربوةٍ عاليةٍ، وزُيِّن بالصّوَر والنقوش الهندسية، وكان له ولدٌ ذكيّ اسمه “سَـبأ”.
كان الإبن يشبه أباه في أخلاقه وحبّه للشّعب، ولكنّه كان يكره الحفلات والإجتماعات الصاخبة التي كانت تجري في قصر أبيه الملك. لذلك كان يقضي معظم أوقاته في الحقول والبساتين مع العمّال والفلاّحين، يُشاركهم حياتهم ويتحسّس آلامهم، ويفكّر في حلّ مشاكلهم.
جعل ذلك السلوك الملك يخاف على مستقبل ابنه. فالآباء لا يهمّهم شيء في الحياة أكثر من مستقبل أولادهم. لذلك قرّر مفاتحة ابنه في الأمر. فقال له: “يا بُنَيّ، إنّ غيابك عن الإجتماعات التي تُعقَد في القصر، يضيّع عليك فرصة التعلّم واكتساب الخبرة، فتعجز في المستقبل عن إدارة شؤون الدّولة”. فأجابه سَبـأ: “أنتَ على حقٍ يا أبي، يجب على الإنسان أن يتعلّم. لكن اكتساب الخبرة يجب أن يكون عمليًا، ومِن الأفضل للحاكم أن يختلط بالشّعب ليتعرّف إلى آلامه وحاجاته فيُعالجها”.
اقتنع الملك بوجهة نظر ابنه ودعا له بالتّوفيق.
وذات يومٍ، خرج سبأ من قصر أبيه، ومشى نحو الحقول مُطرقًا يفكّر في أمرٍ مهمٍ هو: كيف يمكن توفير المياه للبلاد عندما تنحبس الأمطار؟
وقف على قمّة جبلٍ، وأخذ يتأمّل جدولاً صغيرًا ينساب في أعماق الوادي، فحدّث نفسه قائلاً: “إذا كانت قطرات المطر الصغيرة تتجمّع فتشكّل سيولاً جارفةً، أفلا يمكن خزن مياه هذا الجدول في الشّتاء فتتجمّع مياه كثيرة ندخرها ونستعملها حسب الحاجة؟”. وأراد أن يجري تجربةً، فنزل إلى الجدول، وأخذ يردم مجراه بالحجارة والتراب، فلاحظ أنّ المياه تتجمّع ثم تجرف الجدار الصغير الذي أنشأه.
عندما تعب من تكرار العمل، جلس في ظلّ شجرةٍ قريبةٍ وأخذ يفكّر في ما يجب عليه عمله. وبينما هو على هذه الحال، وقع نظره على يمامةٍ تحلّق في الفضاء وهي تحمل في منقارها قشّةً صغيرةً، ثم تقف على رأس شجرةٍ عاليةٍ، فتضع القشّة بين أغصانها، ثم تطير وتغيب عن النّظر لتعود بعد قليلٍ، وقد أحضرت قشةً أخرى تضعها مع الأولى. وهكذا استمرّت تفعل طوال النهار. فقال في نفسه: “إذا كانت هذه اليمامة الضّعيفة تستطيع بفضل حكمتها وصبرها أن تحقّق هدفها وتبني عشّها، فكيف لا أستطيع أنا بمساعدة الشّعب كلّه أن أبنيَ سدّا عظيمًا يجمع مياه الجداول والأمطار؟”
عاد سبأ إلى أبيه، وأخذ يشرح له أفكاره، لكنّ الملك لم يهتم كثيرًا لحديث ابنه لإنشغاله بأمورٍ أخرى، الأمر الذي أزعج سبأ وجعله يفكر في التخلي عن مشروعه. لكنه لما عاد إلى نفسه، تذكّر كفاح اليمامة في بناء عشها، فلم ييأس، بل ذهب إلى المهندس البابلي المشهور ” حبيب ” وشرح له مشروعه وأفكاره.
كان حبيب مُهندسًا بارعًا وكان يهتم بأيّة فكرةٍ تُطرَح عليه. لذلك خرج مع سَبأ إلى الوادي، ووقف معه عند المكان الذي حاول فيه سبأ بناء سدّه الصغير، فحَسَب عدد العمّال الضّروريين لبناء السّد، وكمية المياه التي يمكن خزنها وكيفية بناء الأنفاق والأقنية لنقل المياه إلى المزارع والحقول. وعندما انتهى من حساباته، هتف بصوتٍ عالٍ: “يا إلهي، كيف لم أتنبّه لهذا الأمر؟” ثم التفت إلى سبأ وقال: “أيّها الأمير، إن أقامة سدٍ في هذا المكان ستكون أعجوبة العصور. وأنّني أطمح أن أظهر مواهبي هنا في “اليمن السّعيد” فأشتهرُ كما اشتهرت في بلادي بابل العظيمة”.
وحَدَث أن انحبَست الأمطار في تلك السّنة، وحلّ القحط بالبلاد، وبدأت مياه الآبار تجفّ. وبينما كان النّاس يهجرون قراهم مُتّجهين إلى أماكن تجمع المياه الصغيرة في الجبال، كان المهندس البابلي حبيب يضع مع سبأ مخطّطات المشروع العظيم.
وعندما دعا الملك “يشجب” كبار قومه إلى الإجتماع في القصر لتدارس الأمر، والبحث عن حلٍّ يحميهم من الكارثة التي حلّت بهم، حضر سبأ والمهندس البابلي ومعهما خرائط مشروعهما، وجلسا بين النّاس يستمعون إلى المناقشات.
بَدأت الجلسة، واحتدم النّقاش، ولم يستطع المجتمعون الوصول إلى نتيجةٍ. فبعضهم أشار بالهجرة إلى بلاد ما بين النهرين في العراق حيث تكثر المياه والمراعي، ومنهم مَن اقترح هجرةً قريبةً إلى أماكن تجمع المياه في الجبال بانتظار هطول الأمطار، ومنهم من قدّم اقتراحات غريبة لا تقبلها العقول السّليمة..
ولمّا عَلَت أصوات القوم بالنقاش، وقف المهندس البابلي وقال بصوتٍ هادئٍ: “أيّها القوم، إنّ أفضل حلٍ لمشاكلنا هو نجاحنا بالإحتفاظ بمياه الشّتاء في خزّانٍ كبيرٍ، ثم نَقلِها واستعمالها عندما تدعو الحاجة إليها في فصل الصيف”.
ولمّا سمع القوم المُجتمعون هذا الكلام، حدث هرج ومرج، وعلت بعض الأصوات: لا مجال للمزاح الآن وإضاعة الوقت! ولكن هدوء حبيب جعل جميع الحضور يصمتون، ثم قال أحدهم: “وكيف نجمع المياه وننقلها”.
ردّ حبيب: “الجواب عند الأمير سبأ”.
تطلّع الجميع إلى الأمير سبأ بإكبارٍ، فأخذ الأمير يشرح لهم مشروع السد، مُستعينًا بالمخطّطات التي أعدّها المهندس البابلي حبيب.
ودار النقاش مُجددًا، وتضاربت الآراء، ثم انفض الإجتماع بالإتفاق على إقامة “سدّ سبأ” في الوادي الكبير، وهو السّد ذاته الذي يسمّونه أيضًا: “سدّ مأرب”.
خرج أهالي اليمن كلّهم، رجالاً ونساءً، يعملون في السّد بإشراف سبأ والمهندس حبيب. ولم يمض طويل وقت حتى بدأ السد بالإرتفاع شيئًا فشيئًا.
واهتم الملك بتنفيذ المشروع، فصرف كلّ ما لديه من أموالٍ في بناء السّد. وعندما انتهى بناؤه بعد شهورٍ وسنينٍ طويلة من العمل الشّاق، كان آيةً في الجمال وأعجوبةً هندسيةً لا مثيل لها في ذلك الزّمان.
وبينما كان اليمنيون يحتفلون بانتهاء البناء، هطلت الأمطار بغزارة وبدأت المياه تتجمّع خلف السد.
وعندما أقبل الربيع، بدأت المياه تنساب في الأقنية من السدّ العظيم لتسقي المزروعات، وعمّ الخير جميع الفلاحين، وحافظ اليمن على اسمه “اليمن السّعيد”.
ومرّت الأيام، ومات الملك يشجب وسبأ والمُهندس حبيب، لكنّ إسم “سـبأ” بَقي على مرّ الأيام، حتّى بعدما تهدّم سدّه العظيم. وهكذا يُخلّد كلّ عملٍ عظيمٍ صاحبه على مرّ الأيّام والعصور.
كان في قديم الزّمان، في بلاد اليَمن، ملك عظيم اسمه “يعرب بن قحطان”. وقد استطاع هذا الملك، وبقيادته الحكيمة، أن يتغلّب على أعدائه جميعهم ويحكم مدّةً طويلةً من الزمن. وكان له عدد كبير من الإخوة والأبناء اعتمد عليهم في تسيير أمور البلاد الواسعة التي حكمها.
خلف “يعرب” في الملك ابنه “يشجب”. وكان ملكًا عادلاً يملك قصرًا جميلاً بُنِيَ فوق ربوةٍ عاليةٍ، وزُيِّن بالصّوَر والنقوش الهندسية، وكان له ولدٌ ذكيّ اسمه “سَـبأ”.
كان الإبن يشبه أباه في أخلاقه وحبّه للشّعب، ولكنّه كان يكره الحفلات والإجتماعات الصاخبة التي كانت تجري في قصر أبيه الملك. لذلك كان يقضي معظم أوقاته في الحقول والبساتين مع العمّال والفلاّحين، يُشاركهم حياتهم ويتحسّس آلامهم، ويفكّر في حلّ مشاكلهم.
جعل ذلك السلوك الملك يخاف على مستقبل ابنه. فالآباء لا يهمّهم شيء في الحياة أكثر من مستقبل أولادهم. لذلك قرّر مفاتحة ابنه في الأمر. فقال له: “يا بُنَيّ، إنّ غيابك عن الإجتماعات التي تُعقَد في القصر، يضيّع عليك فرصة التعلّم واكتساب الخبرة، فتعجز في المستقبل عن إدارة شؤون الدّولة”. فأجابه سَبـأ: “أنتَ على حقٍ يا أبي، يجب على الإنسان أن يتعلّم. لكن اكتساب الخبرة يجب أن يكون عمليًا، ومِن الأفضل للحاكم أن يختلط بالشّعب ليتعرّف إلى آلامه وحاجاته فيُعالجها”.
اقتنع الملك بوجهة نظر ابنه ودعا له بالتّوفيق.
وذات يومٍ، خرج سبأ من قصر أبيه، ومشى نحو الحقول مُطرقًا يفكّر في أمرٍ مهمٍ هو: كيف يمكن توفير المياه للبلاد عندما تنحبس الأمطار؟
وقف على قمّة جبلٍ، وأخذ يتأمّل جدولاً صغيرًا ينساب في أعماق الوادي، فحدّث نفسه قائلاً: “إذا كانت قطرات المطر الصغيرة تتجمّع فتشكّل سيولاً جارفةً، أفلا يمكن خزن مياه هذا الجدول في الشّتاء فتتجمّع مياه كثيرة ندخرها ونستعملها حسب الحاجة؟”. وأراد أن يجري تجربةً، فنزل إلى الجدول، وأخذ يردم مجراه بالحجارة والتراب، فلاحظ أنّ المياه تتجمّع ثم تجرف الجدار الصغير الذي أنشأه.
عندما تعب من تكرار العمل، جلس في ظلّ شجرةٍ قريبةٍ وأخذ يفكّر في ما يجب عليه عمله. وبينما هو على هذه الحال، وقع نظره على يمامةٍ تحلّق في الفضاء وهي تحمل في منقارها قشّةً صغيرةً، ثم تقف على رأس شجرةٍ عاليةٍ، فتضع القشّة بين أغصانها، ثم تطير وتغيب عن النّظر لتعود بعد قليلٍ، وقد أحضرت قشةً أخرى تضعها مع الأولى. وهكذا استمرّت تفعل طوال النهار. فقال في نفسه: “إذا كانت هذه اليمامة الضّعيفة تستطيع بفضل حكمتها وصبرها أن تحقّق هدفها وتبني عشّها، فكيف لا أستطيع أنا بمساعدة الشّعب كلّه أن أبنيَ سدّا عظيمًا يجمع مياه الجداول والأمطار؟”
عاد سبأ إلى أبيه، وأخذ يشرح له أفكاره، لكنّ الملك لم يهتم كثيرًا لحديث ابنه لإنشغاله بأمورٍ أخرى، الأمر الذي أزعج سبأ وجعله يفكر في التخلي عن مشروعه. لكنه لما عاد إلى نفسه، تذكّر كفاح اليمامة في بناء عشها، فلم ييأس، بل ذهب إلى المهندس البابلي المشهور ” حبيب ” وشرح له مشروعه وأفكاره.
كان حبيب مُهندسًا بارعًا وكان يهتم بأيّة فكرةٍ تُطرَح عليه. لذلك خرج مع سَبأ إلى الوادي، ووقف معه عند المكان الذي حاول فيه سبأ بناء سدّه الصغير، فحَسَب عدد العمّال الضّروريين لبناء السّد، وكمية المياه التي يمكن خزنها وكيفية بناء الأنفاق والأقنية لنقل المياه إلى المزارع والحقول. وعندما انتهى من حساباته، هتف بصوتٍ عالٍ: “يا إلهي، كيف لم أتنبّه لهذا الأمر؟” ثم التفت إلى سبأ وقال: “أيّها الأمير، إن أقامة سدٍ في هذا المكان ستكون أعجوبة العصور. وأنّني أطمح أن أظهر مواهبي هنا في “اليمن السّعيد” فأشتهرُ كما اشتهرت في بلادي بابل العظيمة”.
وحَدَث أن انحبَست الأمطار في تلك السّنة، وحلّ القحط بالبلاد، وبدأت مياه الآبار تجفّ. وبينما كان النّاس يهجرون قراهم مُتّجهين إلى أماكن تجمع المياه الصغيرة في الجبال، كان المهندس البابلي حبيب يضع مع سبأ مخطّطات المشروع العظيم.
وعندما دعا الملك “يشجب” كبار قومه إلى الإجتماع في القصر لتدارس الأمر، والبحث عن حلٍّ يحميهم من الكارثة التي حلّت بهم، حضر سبأ والمهندس البابلي ومعهما خرائط مشروعهما، وجلسا بين النّاس يستمعون إلى المناقشات.
بَدأت الجلسة، واحتدم النّقاش، ولم يستطع المجتمعون الوصول إلى نتيجةٍ. فبعضهم أشار بالهجرة إلى بلاد ما بين النهرين في العراق حيث تكثر المياه والمراعي، ومنهم مَن اقترح هجرةً قريبةً إلى أماكن تجمع المياه في الجبال بانتظار هطول الأمطار، ومنهم من قدّم اقتراحات غريبة لا تقبلها العقول السّليمة..
ولمّا عَلَت أصوات القوم بالنقاش، وقف المهندس البابلي وقال بصوتٍ هادئٍ: “أيّها القوم، إنّ أفضل حلٍ لمشاكلنا هو نجاحنا بالإحتفاظ بمياه الشّتاء في خزّانٍ كبيرٍ، ثم نَقلِها واستعمالها عندما تدعو الحاجة إليها في فصل الصيف”.
ولمّا سمع القوم المُجتمعون هذا الكلام، حدث هرج ومرج، وعلت بعض الأصوات: لا مجال للمزاح الآن وإضاعة الوقت! ولكن هدوء حبيب جعل جميع الحضور يصمتون، ثم قال أحدهم: “وكيف نجمع المياه وننقلها”.
ردّ حبيب: “الجواب عند الأمير سبأ”.
تطلّع الجميع إلى الأمير سبأ بإكبارٍ، فأخذ الأمير يشرح لهم مشروع السد، مُستعينًا بالمخطّطات التي أعدّها المهندس البابلي حبيب.
ودار النقاش مُجددًا، وتضاربت الآراء، ثم انفض الإجتماع بالإتفاق على إقامة “سدّ سبأ” في الوادي الكبير، وهو السّد ذاته الذي يسمّونه أيضًا: “سدّ مأرب”.
خرج أهالي اليمن كلّهم، رجالاً ونساءً، يعملون في السّد بإشراف سبأ والمهندس حبيب. ولم يمض طويل وقت حتى بدأ السد بالإرتفاع شيئًا فشيئًا.
واهتم الملك بتنفيذ المشروع، فصرف كلّ ما لديه من أموالٍ في بناء السّد. وعندما انتهى بناؤه بعد شهورٍ وسنينٍ طويلة من العمل الشّاق، كان آيةً في الجمال وأعجوبةً هندسيةً لا مثيل لها في ذلك الزّمان.
وبينما كان اليمنيون يحتفلون بانتهاء البناء، هطلت الأمطار بغزارة وبدأت المياه تتجمّع خلف السد.
وعندما أقبل الربيع، بدأت المياه تنساب في الأقنية من السدّ العظيم لتسقي المزروعات، وعمّ الخير جميع الفلاحين، وحافظ اليمن على اسمه “اليمن السّعيد”.
ومرّت الأيام، ومات الملك يشجب وسبأ والمُهندس حبيب، لكنّ إسم “سـبأ” بَقي على مرّ الأيام، حتّى بعدما تهدّم سدّه العظيم. وهكذا يُخلّد كلّ عملٍ عظيمٍ صاحبه على مرّ الأيّام والعصور.