الشّـاطر حسـن


الشّـاطر حسـن

يُحكى أنّ فتًى ذكيًا شُجاعًا، اسمه “الشاطر حسن”، كان يعيش مع والده التّاجر. وذات يومٍ، عزم الأب على السّفر في رحلةٍ طويلةٍ، فقال لإبنه: “إذا تأخّرتُ في سفري، فاجلس فوق هذا البساط واطلب إليه أن يحملك إلى نخلتين فوق الجبل”.

مرّت الأيّام، وطالت غيبة الوالد، ونَفَدَت نقودُ الإبن، فأخذ الشّاطر حسن ما تبقّى في البيت من بيضٍ وخبزٍ، وجلس فوق البساط وقال: “أيّها البساط، احملني إلى النّخلتين فوق الجبل”.

ارتفع به البساط في الهواء، وطار ساعاتٍ طويلةً، ثمّ هبط عند نخلتين مُتجاورتين ترتفعان وحيدتين فوق جبلٍ. وتَلفَّت حوله فلم ير غير السّماء وصخور الجبل. وتعجّب لأن أباه اختار له هذا المكان.

لم يجد الشّاطر حسن في الطبيعة من حوله ما يثير الإنتباه. وفي اللّيل، لمّا اشتدّ البرد، تسلّق إحدى النّخلتين، ونزع بعض السّعف الجاف وأشعل نارًا صغيرةً يتدفّأ بها. ثم قرّر أن يتعشّى ويستريح قليلاً، على أن يستكشف المنطقة في الصّباح.

فجأةً، رأى شيئًا يتحرّك ويقترب ناحيته. اتّضح له أنّه رجل أخضر اللّون، أخضر الملابس، يمسك في يده عصًا خضراء. ولما وصل قرب حسن، حيّاه واستأذنه أن يجلس معه قرب النّار، فرحّب به حسن، وشكره الرّجل.

بدأ حسن يعدّ الطّعام ليتعشّى؛ وقدّم بعضه للرّجل، فاعتذر لأن الطّعام قليلٌ. لكن حَسَن قال له: “طعامٌ واحدٌ يكفي اثنين”. فأكل الرّجل، وناما بعد العشاء. وفي الصّباح، شَكَر حَسن، وقدّم لهُ قبل أن ينصرف نصيحةً بألاّ يُشعلُ نارًا قرب جذع النّخلتين، وأن يصعد لينام بين السّعف ثم اختفى.

في الصّباح، قضى الشّاطر حسن وقته في ظلّ النّخلتين، وعند الظّهر، صعد فوق إحداهما لينام. وكان ثمرها أصفر لم يكتمل نضجه؛ وأخذ يسوّي لنفسه مكانًا يجلسُ فيه بين سُعف النّخلة.

وفجأةً سمع رنين شيءٍ سقط واصطدم بصخر الجبل. نظر من مكانه فرأى قطعةً ذهبيةً، وتعجّب من أين جاءت، فتحرّك لينزل ويأخذها؛ سمع رنين قطعةٍ أخرى تسقط على الأرض. فأدرك أنّه عندما يتحرّك فوق النّخلة، تسقط على الأرض تلك القطع الذّهبية الثّمينة. فمدّ يده يبحث عن مكان تلك القطع بين سعف النخلة، فاصطدمت يده بشيء مدسوسٍ بين السّعف.

تناول الشاطر حسن ذلك الشّيء فوجده كيسًا كبيرًا من الجلد، تملأه القطع الذّهبية. هنا فهم سرّ نصيحة الرّجل الأخضر. فوضع كيس الذّهب في حزامه، وأمسك البساط العجيب في يده، ونزل من فوق النّخلة.

شاهد أثناء نزوله، عن بُعدٍ، مدينةً. وبعد بضع خطوات عاد إلى النّخلة الثانية فتسلّقها. كان بلحها أحمر لم ينضج بعد، وأخذ يبحث بين السّعف. وفجأة أطلق صيحة فرحٍ وانتصار. فقد عثر، كما توقّع، على كيسٍ جلديٍّ آخر مملوءٍ بقطع الماس النّادر، فأخذه ووضعه في حزامه ونزل واتّجه صوب المدينة.

لمّا اقترب حسن من أسوار المدينة، شاهد حجارةً على هيئة أجسامٍ بشريةٍ، وبالقرب منها إمرأة عجوز تبيع التّرمس. فسألها: “مَن هؤلاء يا خالة؟”. أشارت العجوز إلى أكوامٍ مختلفة الحجم من التّرمس، وقالت: “هذا بِقِرش، وهذا بقرشَين، وهذا بثلاثة قروشٍ”.

فقال الشاطر حسن: “يا خالة… أنا لا أسألك عن التّرمس. أنا أسألك عن هذه الحجارة التي هي على هيئة النّاس!” أشارت العجوز ثانيةً إلى أكوام التًرمس، وقالت: “هذا بقرشٍ، وهذا بقرشين وهذا بثلاثة قروشٍ”.

أخرج الشّاطر حسن قطعة ذهبٍ وأعطاها للعجوز، وقال: “أنا أشتري بهذه القطعة ما أمامك من ترمسٍ.. لكن أرجوك أجيبي عن سؤالي…”. فنظرت إليه العجوز وقالت: “ما الذي تسأل عنه؟”. قال: “ما هذه الأشكال الغريبة التي تملأ المكان خلفك؟”. قالت: “هؤلاء رجال طلبوا الزّواج من الأميرة بنت السّلطان، ولمّا غَلَبَتهم في المصارعة حوّلتهم إلى قطعٍ من الصّخر”.

تعجّب الشاطر حسن لدى سماعه هذا الكلام وثار غيظه من الأميرة الشّريرة.

انتظر حسن حتّى حلّ الظّلام، ثم جلس فوق البساط وقال: “احملني إلى غرفة الأميرة”. وفي لحظاتٍ كان الشّاطر حسن يطير عاليًا، تخفيه ظلمة الليل عن العيون، مُتّجهًا إلى نافذة الأميرة، إلى أن استقرّ داخل غرفتها.

كانت الأميرة مشهورةً بالجرأة والشّجاعة، فلم تفزع لما رأت الفتى الطّائر يدخل من نافذتها، ووقف حسن أمامها مُبتسمًا.

قالت: “إذا كنت قد جئت تخطبني فلماذا لم تذهب إلى والدي؟”. تأمّل الشّاطر حَسَن جمال الأميرة، ثم قال: “أمرٌ غريب أن تكوني على هذا القدر من الرّقة والجمال ويكون قلبك بمثل هذه القسوة”.

قالت الأميرة في دهشةٍ: “قسوة؟ أية قسوة؟”.

قال الشّاطر حسن: “هؤلاء الذين جاءوا يخطبونك حُبّا فيك، فحوّلتِهم إلى قطعٍ من الصّخر الأصم”.

قالت في برودٍ: “لقد اشترطتُ عليهم شروطًا فقبلوها باختيارهم. فهل تعرف تلك الشّروط؟”

قال: “علمتُ أنّك تجيدين المصارعة، وأنّك قد تغلّبت عليهم جميعًا في فنون هذه اللّعبة”.

قالت: ” وهل تجيد أنت المصارعة خيرًا منهم؟”

فقال الشّاطر حسن: “هيّا نُجرّب”.

تصارعا. ورغم مهارة الأميرة الفائقة فقد تغلّب عليها الشّاطر حسن في وقتٍ قصيرٍ، فقالت الأميرة: “لقد تعثّرَت قدمي في طرف الفراش… هيّا نقم بجولةٍ ثانيةٍ”.

وفي هذه المرّة هزمها حسن بأسرع ممّا فعل في المرّة الأولى. فتراجعت الأميرة، ونظرت إليه بإعجابٍ ثم قالت: “قبل أن تذهب إلى والدي لتعلمه بفوزك، أخبرني ماذا ستُقدّم لي مهرًا؟”.

فأسرع حسن بإخراج الكيسين من حزامه ونثر ما فيهما فوق سريرها وهو يقول: “هل يكفيك هذا مهرًا؟”

لكنّه أحسّ عندما أبعد الكيسين عن جسمه، كأنّما القوة التي تغلّب بها على الأميرة قد فارقته!

فقالت الأميرة ساخرةً: “هل هذا كلّ ما لديك لتقدّمه مهرًا للأميرة التي راح ضحيّتها مائة شابٍ؟” ثم أشارت إلى الكيسين، وقد ألقاهما حسن على الفراش: “إنّك لم تقدّم لي إلاّ بعضًا ممّا معك فقط، ألا أستحقّ كل ما في الكيسين؟”

دُهِشَ الشّاطر حسن عندما نظر إلى الكيسين ووجدهما ممتلئين مرّةً أخرى بالذّهب والماس!! فأدرك أنّ فيهما سرًا آخر، وهو أنّهما كلّما فرغا يمتلئان من جديدٍ. وأدركت الأميرة هذا السّر أيضًا، فابتسمت ودعت الشّاطر حسن للجلوس بجوارها، وأخذت تحدّثه كأنّه صديقٌ قديم. ثم عزفت له الموسيقى وغنّت له، فسمع منها أعذب الألحان وأجمل الأصوات. ثم سقته بعضًا من عصير البرتقال، أخذ يشربه على مهلٍ ويتذوّق حلاوته. وسرعان ما أحسّ بجفونه تثقل، والكلام يخرج من فمه مُتقطّعًا، وشيئًا فشيئًا تغلّب عليه النّوم وفقد الوعي.

عندما أفاق وفتح عينيه، وجد نفسه مُلقًى على صُخور الجبل، وقد تمّ تجريده من البساط الطّائر، ومن الكيسين العجيبين، وبذلك فَقَدَ فرصته لإرغام الأميرة على إزالة اللّعنة عن الرّجال الذّين حوّلتهم إلى أحجارٍ وصخورٍ. وقال في نفسه بضيقٍ: “كيف توقّعتُ أن يتحوّل شرّ الأميرة وقسوتها إلى حبٍّ وطيبةٍ؟ ليس من السّهل أن يتحوّل الإنسان الشّرير من الشّر إلى الخير في لحظةٍ”.

وأخذ الشاطر حسن يفكّر بطريقةٍ تُمكّنه من استعادة البساط والكيسين من الأميرة، لكنّه أحسّ بالجوع. فتذكّر النّخلتين اللتين فوق الجبل، فسار وقتًا طويلاً حتّى وصل. وكان البلح الأصفر قد ازداد حجمه حتّى أصبح كحجم البرتقال. ودُهش لنموّ البلح بهذه السّرعة، وتسلّق النّخلة، وتناول ثمرةً وأكلها، فوجد طعمها حلوًا لذيذًا، ثمّ نزل من فوق الشجرة، واستلقى في ظلّها ونام..

وفي أثناء نومه حاول أن يتقلّب على جنبه الثاني؛ لكنّ شيئًا في جبهته اصطدم بالأرض وعوّق حركته، فتحسّس وجهه، فوجد قُرنًا كبيرًا كأنّه قرن بقرةٍ، ينمو فوق جبهته.

أحسّ الشاطر حسن بِغَيظٍ شديدٍ لهذا الذي حدث له، ولم يفهم سببًا لهذه المصيبة التّي حلّت به. لم يعد قادرًا على العودة إلى المدينة حتّى لا يراه الناس وهذا القرن يبرز فوق جبهته! فجلس حزينًا يفكّر في همّه. وفجأة رأى الرّجل الأخضر يقترب منه. وحاول أن يخفي جبهته بذراعيه، وأدار وجهه بعيدًا عن الرّجل الأخضر. لكن الرجل قال له: “لقد أحسستُ أنّكَ في حاجةٍ إلى مَن يساعدك. حدّثني بصراحةٍ عن كلّ ما حدث لك”.

فلمّا أخبره حسن بما حدث له، أشار الرّجل إلى بلح النّخلة الأخرى، وكان لونه قد أصبح أحمر قانيًا، وقال له: “لماذا لا تجرّب أكل شيءٍ من هذا التّمر الأحمر؟” ثم ابتعد مُسرعًا وغاب عن الأنظار.

أسرع الشّاطر حسن وصعد النّخلة، وما إن أكل ثمرةً حمراء حتى سقط القرن من رأسه.

فعرف حسن أن أكل البلح الأصفر يتسبّب في نمو القرون، وأن أكل التمر الأحمر يشفي من تلك القرون! وفرِح بهذا الإكتشاف، وشكر الرّجل الأخضر في قلبه، وقطع كميّةً كبيرةً من سعف النّخلة، صنع منها طبقًا واسعًا، ملأه بالبلح الأصفر.

وبسرعةٍ عاد إلى المدينة، وأخفى وجهه بشاله، ووقف تحت شبّاك الأميرة يُنادي على البلح الأصفر الجميل: “أبيع البلح النّادر… أحلى بلح في العالم… أكبر بلح في العالم”. واستمرّ ينادي بأعلى صوته إلى أن أرسلت الأميرة إحدى وصيفاتها تنهره وتقول له: “سيّدتي الأميرة تطلب إليك أن تكفّ عن الصّراخ أيها البائع الكذّاب، وأن تبتعد عن هنا”.

فأسرع الشاطر حسن وأعطى الوصيفة ثمرةً صفراء كبيرةً وهو يقول: “هذه هدية متواضعة لابنة السّلطان العظيمة. خُذيها إليها؛ فلم يسبق لمولاتي أن رأت بلحًا في مثل هذا الحجم, أو في مثل هذا اللّون الذّهبي. ستجد مولاتي طعمها حُلوًا مثل شكلها”.

أُعجبت الوصيفة بشكل الثّمرة الصفراء، فأسرعت إلى سيّدتها… وما إن ذاقت الأميرة قطعةً من الثّمرة حتى أعجبها طعمها الحلو، فالتهمتها كلها… وأحسّت بحاجةٍ للنّوم. وعندما استيقظت، أحسّت بشيءٍ ينمو في جبهتها، فتحسّسته، فوجدت قرنًا كبيرًا قد نبتَ في رأسها!

أخذت الأميرة تصرخ وتبكي.. وعَلِمَ السّلطان بالكارثة التي حلّت بابنته، بعد أن رفضت مغادرة حُجرتها، كما رفضت أن تقابل أيّ إنسانٍ. وقال السّلطان في نفسه: “هذا جزاء ما فعلته ابنتي بمن تقدّموا لخطبتها !! ثم أعلن في كلّ أنحاء المملكة أنّ مَن يستطيع شفاء الأميرة سيتزوجها ويصبح سلطانًا من بعده.

حاول عدد كبيرٌ من الأطباء أن يزيلوا هذا القرن الذّي نَبَت للأميرة، لكنّهم فشلوا جميعًا.

وأخيرًا أقبل الشّاطر حسن وقال للسّلطان أنّ لديه علاجًا أكيدًا للأميرة، وقال: “قبل أن أبدأ العلاج لي شرطان: الأوّل أن تعيد لي الأميرة البساط وكيسين من الجلد كانت قد أخذتهم منّي”.

فقال السّلطان لإبنته: “لا شكّ أنّ ما أصابُكِ إنّما هو عقابٌ نزل بك جزاءُ ما فعلت من أخطاءٍ!”

ولم تجد الأميرة مفرًا من إعادة ممتلكات الشّاطر حسن إليه.

قال الشاطر حسن: “والشّرط الثّاني: “أن تزيل الأميرة لعنتها عن الرّجال الذّين حولتهم إلى حجارةٍ ولا ذنب لهم إلاّ أنّهم تقدّموا لخطبتها”.

هنا أدركت الأميرة بشاعة العقاب الذي حلّ بها، فأسرعت تعيد كلَّ مَن حَوّلتهم إلى حجارةٍ إلى هيأتهم البشرية.

وفي الحال وضع الشّاطر حسن في يد الأميرة ثمرةً حمراء ملفوفةً في ورق كُتُبٍ فيها: “ثمرةٌ حمراء فيها الشّفاء والشّقاء”!

وأسرع يجلس على بساطه الطّائر، وانطلق يشقّ به غشاء المدينة في طريقه إلى مغامرةٍ جديدةٍ…